ومن أعظم ما وقفتُ عليه ، وأظرف ما جرى للسلطان الملك العادل نور
الدين بن زنكي ، رحمه الله تعالى ، حديثٌ يُكتب بماء الذهب. وذلك أن بعض العجم جاء
إلى دمشق ، فأخذ ألف دينار مصرية فبَرَدَها ، ثم أخذ لها دقّ الفحم وعقاقير وطحن
الجميع ثم عجنه بغراء السَّمك ، وجعله بنادق وجفّفه جفافاً بالغاً . ثم لبس دِلقاً
وتزيّا بزيّ الفقراء ، وجعل تلك البنادق في مخلاة . ثم أتى إلى بعض العطّارين فقال
: تشتري مني هذا ? فقال : وأيّ شيء هذا ? قال : طَبَرْمَك خُراساني! وهذه كلمة
مصحفة معناها طترمك ، قال العطار : وهذا لأيّ شيء ينفع ? قال : ينفع من السُّموم ،
ويدخل في جميع الأدوية التي تدفع الأخلاط ، وله نفع عظيم . ولولا أن أدركتني
الحاجة ولم أقدر على حمله ما بعته ، لأنه يساوي وزناً بوزن عند من يعرفه ! فقال
العطار : بكم هو ? قال : بعشرة دراهم . قال له العطار : بثلاثة . فأبى ، ثم اشتراه
منه بخمسة دراهم ، وجعله في برنيّة . وأخذ العجمي الدراهم وراح . فانظر إلى هذا
الرجل وما أجسره ، باع ألف دينار بخمسة دراهم ، فهذه جسارة عظيمة ، وقد قال
القائل: من خاطر بنفيس ملك نفيساً . فلمّا انفصل عنه ، لبس بزّة حسنة من ملابس
الوزراء ، ورتّب خلفه مملوكاً ونزل أكبر دار تصلح لوزير ، وصار يمشي في الجامع
ويتعرّف بالأكابر من أهل البلد ، ويعمل السماعات ويخسر جُملةً ، ويدّعي الوصول في
علم الصَّنعة وأنه يقدر أن يعمل في يوم واحد جملة من المال . وشاع ذلك في دمشق ،
فسأله الكُبراء أن يعمل عندهم ، فكان يقول : ما أنا محتاج إلى أحد ، فالذي يريدني
أعمل عنده أي شيء حاجتي إليه ? وأنا قد آليتُ أن لا أعمل شيئاً إلاّ لملك ، ومع
هذا فإني لا أعمل شيئاً حتى يحلف لي أن مهما عملته لا يُنفقه إلاّ في سبيل الله .
فاتّصل خبره بالوزير ، فأحضره وآنسه ، ثم ذاكَرَهُ بشيء من ذلك ، فقال : قد كان من
أمري أني حلفتُ أن لا أعمل شيئاً إلاّ لملك ، بعد أن يعاهدني أنه لا ينفق منه
شيئاً إلاّ في سبيل الله تعالى . فإن حصل هذا الشرط عملتُ وإلا فلا سبيل إلى عمل
شيء . ولما سمع الوزير ذلك افتكر وقال : والله هذه سعادة للمسلمين وللسُّلطان ،
هذه البلاد كلها للأفرنج إلى بانياس ، وكل يوم الغارات تصل إلى ديارنا ، فاذا عمل
شيئاً نفتح به هذه البلاد وهذه نعمة عظيمة! ثم قال : أُعرّف السلطان ? قال : نعم ،
إلاّ أنّك تجمع بيني وبينه حتى أستوثق منه باليمين . ثم ركب الوزير فاختلى
بالسلطان ، ثم عرّفه ذلك ، فقال : والله قد هجس في فكري أنه لا بدّ من شيء يوصلنا
إلى قلع شأن هؤلاء الملاعين . فأحضر الرجل في غاية الكرامة . فأخذ له خلعة حسنة
وبغلة بسرج ملجمة ، فألبسه الخلعة وأركبه إلى جانبه ، ثم صعد واجتمع به السلطان .
ثم تحدّثا فقال : أصحيح ما قاله الوزير عنك ? قال : نعم يا مولانا ، لكن كل من
ادّعى هذه الدرجة فهو كذّاب نصّاب دكّاك ، بل أنا شَرطي مع السلطان أن لا أمسّ
بيدي شيئاً ، بل أكون بعيداً من مولانا وأقول له : افعل كذا واصنع كذا ، ومولانا
يفعل . فلمّا تقرّر الأمر على هذه القاعدة قال السلطان : باسم الله اشرع على بركة
الله . فأخذ العجمي ورقة وكتب لهم استدعاء الحوائج ، من العقار الفلاني كذا [ومن
العقار الفلاني كذا] ، ثم قال : من الطَّبَرْمَك الخُراساني مائة مثقال . ثم دفع
الورقة لأستاذ الدار ، وقال له : أحضر هذه الحوايج . فأحضر الجميع إلاّ الطَّبرمك
، فقال إنّه ما وُجد عند العطّارين . فقال العجمي : في مثل دمشق يعدم الطَّبرمك ?
فقال السلطان : ما لنا شيء يُغني عنه ? فقال : لا والله ، ولا تخلو دمشق منه . بل
إن مولانا السلطان يتقدّم إلى المحتسب بتفتيش دكاكين العطّارين ، فإذا كان الغد
ركبت أنا وهو وشهود عدول نفتح حانوتاً حانوتاً نفتّشه ، فلا بدّ أن نجده . فقال :
نعم . وكان المحتسب يُقال له القائد ، فأرسلوا إليه ففعل ذلك ، وركب العجمي من
الغد وأخذ معه العُدول ونزلوا مع القائد ، ثم جعلوا يفتحون دكاكين العطّارين حتى
انتهوا إلى دكّان الذي باعه العجمي الطّبرمك . فقعد الشهود والمحتسب ، ونزل صاحب
الدّكان وجعل يضع قدّامهم برنيّة بعد برنيّة ، إلى أن جاءت البرنيّة التي فيها
الدكّة . فلمّا رآها العجمي تهلّل وجهه فرحاً وقال : هذا السلطان سعيد ! ثم قال
للشهود والمحتسب : اختموا عليها بختومكم ثم ابعثوا بها إلى القلعة . ففعلوا ذلك .
فقال لصاحب الدّكان : من أين لك هذه ? فقال : ابتعتها من رجل فقير . قال: بكم ?
قال : بخمسة دراهم . فأخذ منديله وقال : هذه عشرة دراهم من عندي ، ولا تبطل شغلك
ولا تطلع إلى الديوان . ثم ركبوا جميعهم ، وطلعوا إلى القلعة وعرّفوا السلطان .
وقال له العجمي : هذه أوّل سعادتك ، هذا يعمل شيئاً كثيراً ، فيشرع مولانا من
الليلة وبالله التوفيق . فلمّا أمسى عليهم المساء ، استدعوا ما يحتاجون إليه من
الآلة ، ثم قعد السلطان وخادم في صُفَّة والعجمي قد اعتزل عنهم في ناحية . ثم قال
: يزن مولانا من العقار الفلاني كذا ومن الآخر كذا ، وجعل يعدّ العقاقير جميعها ،
ثم قال : ومن الطَّبرمك مائة مثقال . ففعل ذلك حتى احترقت جميع تلك الحوايج ودار
الذّهب . ثم قال : اقلب على بركة الله تعالى ! فقلب البودقة ، فنزلت سبيكة ذهب
مصري لا يكون شيء أحسن منه . فلمّا نظر السلطان إلى ذلك حار ودُهش ، ثم قدّم له
تلك الليلة شيئاً يساوي ألف دينار . ولم يزالوا يعملون حتى فرغ ذلك الطَّبرمك ،
فطلبوه فلم يجدوه . فقال السلطان : كيف نعمل بالطّبرمك ? فقال العجمي : نبعث نجيب
منه من خُراسان ، فإنه معدن في الجبل في مغارة إذا أراد إنسان أن يحمل منه ألف حمل
جمل . وأنا دخلتُ إليها وأخذتُ منها شياً كثيراً ، وعندي في داري منه مقدار قنطار
. فلمّا سمع السلطان قوله قال: ما لهذا الأمر غيرك ، فإن تعذّر الوصول إلى المغارة
فاحمل الذي عندك ، وإن وصلت إلى المغارة فاحمل مهما قدرت . وأنا أكتب معك كتاباً
إلى السُّلطان الأعظم لايمنعك أحد من ذلك ! فلمّا سمع العجمي قال : إن رأى السلطان
أن يبعث غيري ، فأنا قد طابت لي دمشق وخدمة السلطان . قال : لا غِنا عن رواحك ،
فإن لك في ذلك أعظم الأجر . ولم يزل عليه حتى أنعم بالسفر ، فلمّا شرع يتجهّز
جهّزه بستين حمل منها شُرَب عمل تنيس ودمياط ومن عمل اسكندريّة ، ومنها سُكَّر
بالأحمال والجمال والجمّالين ، ثم أعطاه خيمة ومطبخاً وفرّاشين ونفقة الطريق إلى
بغداد وإلى العجم ، وكتب معه كتباً إلى سائر البلاد بالمراعاة والخدمة والإعانة .
ثم خرج السلطان وأرباب الدولة إلى وداعه ، وراح وقد وصل هذا إلى الحجر المكرّم
وحصل له الإكسير الأعظم . ومن أعجب ما في هذه القضيّة أنه كان بدمشق رجل يكتب
أسماء المغفّلين المُخارفين ، فسمع بهذه القضيّة ، فكتب في رأس جريدته : ?السلطان
نور الدين محمود بن زنكي رأس المغفّلين? . فشاع ذلك ولم يعلم أحد باطن القضيّة ،
حتى قيل للسلطان : قد كتبكَ شخصٌ رأسَ المغفّلين ، فقال : وأيّ شيء أبصر من تغفّلي
حتى يكتب اسمي ? هاتوه ! فنزلت إليه الجنداريّة وقالوا له : باسم الله ، كلِّم
السلطان . فأخذ الجريدة في كمّه ومشى معهم . فلمّا وقف أمام السلطان ، قال : أنت
فلان الذي تكتب أسماء المغفّلين ? قال : نعم . قال : وكتبتني ? قال : نعم ، وهذا
اسمك .. ثم أظهره . فقال : وما بانَ لك من تغفّلي حتى كتبتني ? فقال : ومن يكون
أغفل منك ? جاءك عجمي نصّاب عمل عليك حيلة ودكّ عليك ألف دينار ، أخذ بها مال
المسلمين وراح ! فقال : راح يأتي بطبرمك وكأنك به وقد جاء ومعه الطَّبرمك نعمل منه
أموالاً لا تُحصى . فقال له: يا خوند إن رجع العجمي وجاء ، محيتُ اسمك من الجريدة
وكتبتُ اسمه ، وما يكون في الأرض أغفل منه ! فلمّا سمع السلطان ذلك ، ضحك وقال :
?اعطوه شيئاً يُنفقه عليه? . فأعطوه شيئاً وراح . وكان كلّما أفلس ، أخذ الجريدة
ووقف على باب القلعة ، فإذا ركب السلطان ، فتح الجريدة ويقول : ?ما جاء ، وهذا اسم
السلطان مكتوب !? . فيضحك ، ويُطلق له شيئاً . فانظر إلى هذا الدَّكّ والجسارة على
بيع ألف دينار بخمسة دراهم . فأقام السلطان على ذلك حتى مات ، والطَّبرمك لم يأتِ
.
دفاتر دمشقية عتيقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق