قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله :
... لقد رأيت من قلة الأمانة، عند الصناع والتجار والعلماء والجهلاء ومن يظنّ به المغفلون الولاية ويرونه قطب الوقت ما لا ينتهي حديثه ولا العجب منه، وما خوفني الناس أن أعاملهم، حتى جعلني أحمل هما كالجبل ثقلاً كلما عرضت لي حاجة لابد فيها من معاملة الناس، ولا والله لا أتألم من اللص يتسور على الجدار ويسرق الدار، كما أتألم من الرجل يظهر لي المودة ويعلن التقى، فإذا كانت بيني وبينه معاملة، وتمكن من أكلني بغير ملح. . . وتعرق عظامي!
تذهب إلى الخياط الحاذق الذي ألفته وألفك واستمررت على معاملته عمرك، والخياط من شرور المدنية لا يستغني اليوم عنه، وقد انقضى زمان كان الرجل فيه يخيط لنفسه أو يخيط له أهله. وكان الثوب يتخذ فيه لمجرد الستر والدفء، ولم يبق لك منجي من أن تؤم الخياط تحمل إليه (الجوخ) الثمين، وتسأله أن يضرب موعداً لا يخلفه ينجز لك فيه ثوبك الذي تريده للعيد أو للزفاف أو للسفر. ولكل واحد من أولئك وقت لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فالعيد لا ينسأ لك في أيامه، والزفاف إن أعلنته لا يؤجل، فيعدك ويؤكد الوعد، فإذا جئت في اليوم الموعود وجدته لم يمس بعد قماشك، فإذا زجرته أو أنبته أخذك باللين وراغ منك وحلف لك مائة يمين غموس. . . إنه نسي أو مرض، أو إنه لم يعدك في هذا اليوم ولكن كان (سوء تفاهم)، وإنك راجع في يوم كذا فواجد ثوبك معداً، وتعود ويعود إلى كذبه، حتى يمضي العيد أو الزفاف، ولا يبقى للثوب فائدة، وربما جعله قصيراً أو ضيقاً أو ممتلأ أو مضاعفاً أو مجوفاً . . . أو على خلاف ما استصنعته عليه ولا حيلة لك فيه، ولا سبيل إلى إصلاح ما فسد، فتلبسه مكرهاً أو تلقيه في دارك حتى تأكله (العثة) والأرضة . . .
وهذه الحال من إخلاف المواعيد، واختلاف الأكاذيب، عامة في أرباب الصناعات في بلادنا لم ينج منها إلا الأقل الأقل ممن عصم ربك.
ولقد وقع لي أني كنت على جناح سفر إلى العراق، وقد أعددت له كل شيء، واتخذت لي مكاناً في السيارة ولم يبق إلا يوم واحد فخطر لي أن أبعث إلى الكواء بحلتي الجديدة لكيّها حتى إذا نزلت بغداد لبستها صالحة، وبيّنت له استعجالي ونفضت إليه قصة حالي، ونهيته أشد النهي عن غسلها، لأنه يفسدها ويؤخرني عن غايتي، فما كان منه إلا أن غسلها، طمعاً بفضل أجرة ينالها، فأفسدها وجعلني أسافر وأدعها . . .
وآخر من الكوائين غسل معطفي بصابون له مثل رائحة الخنازير الأهلية. . . فلم أستطع لبسه وحملته إليه ووبخته، فما كان منه إلا أن أنكر أن يكون له تلك الرائحة (وإنها لتشمّ من مسافة فرسخ)، وقلت: شمّها أليس لك أنف، فشمها بمثل خرطوم فيل. وقال: ما بها شيء! فكدت أنشق من غيظي وقلت لجماعة عنده: شمو بالله عليكم. فمدوا أنوفهم إليها ونظروا إليه، وقالوا بلسان واحد مثل مقالته. . . فاضطررت إلى أن أخرج فأدفع الثوب إلى فقير وإني لفقير إلى مثله!
واحتجت مرة إلى عامل يصلح لي طائفة من المقاعد، أستقبل عليها ضيفي وأكرم بها زواري، وهي وحدها التي أخشى اللصوص عليها، لأنها خير ما في الدار، حاشا الكتب، فدلوني على رجل له دكان ظاهر في شارع كبير، وفوقه لوحة كتب عليها اسمه وصناعته ووصف براعته وأمانته، فأنست به وكان كهلاً مشقشق اللسان، وأخذته فأريته المقاعد واستأجرته لإصلاحها، ودفعت إليه أكثر الأجرة مقدماً، وتركته ووكلت أخاً لي صغيراً به، وذهبت إلى عملي لم أرجع إلا المساء، فوجدت الرجل قد بعج بطون الكراسي وأخرج أحشاءها، وكسر عظامها وأرجلها، ولم يقدر على إعادتها سيرتها الأولى لأنه جاهل بالصناعة، فهرب وذهبت أفتش عنه حتى قبضت عليه، وأعدته إلى الدار، فأجتهد جهده، فكانت غاية ما استطاعه أنه جعل من مقاعدي المريحة آلات التعذيب، ومقاعد الأذى، إن لم يشق ثوب القاعد عليه مسمار ظاهر منها، ثقبت ظهره خشبة بارزة، أو كان مجلسه على أحدّ من شوك القتاد، وقبض الأجرة كاملة غير منقوصة. . .
ولو شئت أو لو شاء القراء لسردت ثلاثين واقعة، ما هذا الذي ذكرت بأشدَّ منها ولا أعجب، فأين تقع الأمانة من نفوس هؤلاء الذين يدعون أنهم من المسلمين ؟!!
... لقد رأيت من قلة الأمانة، عند الصناع والتجار والعلماء والجهلاء ومن يظنّ به المغفلون الولاية ويرونه قطب الوقت ما لا ينتهي حديثه ولا العجب منه، وما خوفني الناس أن أعاملهم، حتى جعلني أحمل هما كالجبل ثقلاً كلما عرضت لي حاجة لابد فيها من معاملة الناس، ولا والله لا أتألم من اللص يتسور على الجدار ويسرق الدار، كما أتألم من الرجل يظهر لي المودة ويعلن التقى، فإذا كانت بيني وبينه معاملة، وتمكن من أكلني بغير ملح. . . وتعرق عظامي!
تذهب إلى الخياط الحاذق الذي ألفته وألفك واستمررت على معاملته عمرك، والخياط من شرور المدنية لا يستغني اليوم عنه، وقد انقضى زمان كان الرجل فيه يخيط لنفسه أو يخيط له أهله. وكان الثوب يتخذ فيه لمجرد الستر والدفء، ولم يبق لك منجي من أن تؤم الخياط تحمل إليه (الجوخ) الثمين، وتسأله أن يضرب موعداً لا يخلفه ينجز لك فيه ثوبك الذي تريده للعيد أو للزفاف أو للسفر. ولكل واحد من أولئك وقت لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فالعيد لا ينسأ لك في أيامه، والزفاف إن أعلنته لا يؤجل، فيعدك ويؤكد الوعد، فإذا جئت في اليوم الموعود وجدته لم يمس بعد قماشك، فإذا زجرته أو أنبته أخذك باللين وراغ منك وحلف لك مائة يمين غموس. . . إنه نسي أو مرض، أو إنه لم يعدك في هذا اليوم ولكن كان (سوء تفاهم)، وإنك راجع في يوم كذا فواجد ثوبك معداً، وتعود ويعود إلى كذبه، حتى يمضي العيد أو الزفاف، ولا يبقى للثوب فائدة، وربما جعله قصيراً أو ضيقاً أو ممتلأ أو مضاعفاً أو مجوفاً . . . أو على خلاف ما استصنعته عليه ولا حيلة لك فيه، ولا سبيل إلى إصلاح ما فسد، فتلبسه مكرهاً أو تلقيه في دارك حتى تأكله (العثة) والأرضة . . .
وهذه الحال من إخلاف المواعيد، واختلاف الأكاذيب، عامة في أرباب الصناعات في بلادنا لم ينج منها إلا الأقل الأقل ممن عصم ربك.
ولقد وقع لي أني كنت على جناح سفر إلى العراق، وقد أعددت له كل شيء، واتخذت لي مكاناً في السيارة ولم يبق إلا يوم واحد فخطر لي أن أبعث إلى الكواء بحلتي الجديدة لكيّها حتى إذا نزلت بغداد لبستها صالحة، وبيّنت له استعجالي ونفضت إليه قصة حالي، ونهيته أشد النهي عن غسلها، لأنه يفسدها ويؤخرني عن غايتي، فما كان منه إلا أن غسلها، طمعاً بفضل أجرة ينالها، فأفسدها وجعلني أسافر وأدعها . . .
وآخر من الكوائين غسل معطفي بصابون له مثل رائحة الخنازير الأهلية. . . فلم أستطع لبسه وحملته إليه ووبخته، فما كان منه إلا أن أنكر أن يكون له تلك الرائحة (وإنها لتشمّ من مسافة فرسخ)، وقلت: شمّها أليس لك أنف، فشمها بمثل خرطوم فيل. وقال: ما بها شيء! فكدت أنشق من غيظي وقلت لجماعة عنده: شمو بالله عليكم. فمدوا أنوفهم إليها ونظروا إليه، وقالوا بلسان واحد مثل مقالته. . . فاضطررت إلى أن أخرج فأدفع الثوب إلى فقير وإني لفقير إلى مثله!
واحتجت مرة إلى عامل يصلح لي طائفة من المقاعد، أستقبل عليها ضيفي وأكرم بها زواري، وهي وحدها التي أخشى اللصوص عليها، لأنها خير ما في الدار، حاشا الكتب، فدلوني على رجل له دكان ظاهر في شارع كبير، وفوقه لوحة كتب عليها اسمه وصناعته ووصف براعته وأمانته، فأنست به وكان كهلاً مشقشق اللسان، وأخذته فأريته المقاعد واستأجرته لإصلاحها، ودفعت إليه أكثر الأجرة مقدماً، وتركته ووكلت أخاً لي صغيراً به، وذهبت إلى عملي لم أرجع إلا المساء، فوجدت الرجل قد بعج بطون الكراسي وأخرج أحشاءها، وكسر عظامها وأرجلها، ولم يقدر على إعادتها سيرتها الأولى لأنه جاهل بالصناعة، فهرب وذهبت أفتش عنه حتى قبضت عليه، وأعدته إلى الدار، فأجتهد جهده، فكانت غاية ما استطاعه أنه جعل من مقاعدي المريحة آلات التعذيب، ومقاعد الأذى، إن لم يشق ثوب القاعد عليه مسمار ظاهر منها، ثقبت ظهره خشبة بارزة، أو كان مجلسه على أحدّ من شوك القتاد، وقبض الأجرة كاملة غير منقوصة. . .
ولو شئت أو لو شاء القراء لسردت ثلاثين واقعة، ما هذا الذي ذكرت بأشدَّ منها ولا أعجب، فأين تقع الأمانة من نفوس هؤلاء الذين يدعون أنهم من المسلمين ؟!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق