بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 13 ديسمبر 2011

المحاسبي رحمه الله يصف هول يوم القيامة


حتى إذا تكاملت عدة الموتى وخلت من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم فلا حِسَّ يُسمع ولا شخص يُرى وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزلياً واحداً منفرداً بعظمته وجلاله، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله عز وجل بالذل والصغار منك ومنهم . فتوهم كيف وقوع الصوت في مسامعك وعقلك وتفهم بعقلك أنك تُدعى إلى العرض على الملك الأعلى فطار فؤادك وشاب رأسك للنداء لأنها صيحة واحدة بالعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياءــ فبينما أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض على رأسك فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك قائم على قدميك شاخص ببصرك نحو النداء وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة وهم مُغَبَّرون من غبار الأرض التي طال فيها بلاؤهم. فتوهم ثورتهم بأجمهم بالرعب والفزع منك ومنهم فتوهم نفسك بعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق عراة حفاة صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة فلا تسمع إلا همس أقدامهماوالصوت لمدّة المنادي ، والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساعٍ بالخشوع والذِّلة، حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة، قد نزع الملْك من ملوك الأرض ولزمتهم الذلة والصغار، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة وقدراً بعد عتوّهم وتجبرهم على عباد الله عز وجل في أرضه. ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال، منكسة رؤوسها لذلّ يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذليلة ليوم النشور لغيرِ بَلِيَّةٍ نابتها ولا خطيئةٍ أصابتها، فتوهم إقبالها بذلّها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور.وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها منكسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذلّ والمسكنة والإنكسار للملك الجبار، وأقبَلَتِ الشياطين بعد عتوّها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء واختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحش بعضهم من بعض قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور.
حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامّها، واستتووا جميعاً في موقف العرض والحساب تناثرت نجوم السماء من فوقهم وطمست الشمس والقمر، وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها. فبينما أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدُّنيا من فوقهم، فدارت بعظمها من فوق رؤوسهم، وذلك بعينك تنظر إلى هول ذلك، ثم انشقت بغلظها خمسمائة عام، فيا هول صوت انشقاقها في سمعك،ثم تمزقت وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة والملائكة
قيام على أرجائها وهي حافّات ما يتشقق ويتفطر، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها، فأذابها ربّها حتى صارت كالفضة المذابة تخالطه صفرة لفزع يوم القيامة كما قال الجليل الكبير:{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ*وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ} فبينا ملائكة السماء الدنيا على حافّتها إذ انحدروا محشورين إلى الأرض للعرض والحساب، وانحدروا من حافّتيها بعظم أجسامهم وأخطارهم وعُلُوِّ أصواتهم بتقديس الملك الأعلى الذي أنزلهم محشورين إلى الأرض بالذلّة والمسكنة للعرض عليه والسؤال بين يديه. فتوهم تحدرهم من السحاب بعظيم أخطارهم وكبير أجسامهم وهول أصواتهم وشدة قرقهم منكسين لذل العرض على الله عز وجل. فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أمروا بهم، ومسألتهم إياهم: أفيكم ربنا؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالاً لمليكهم أن يكون فيهم، فنادوا بأصواتهم تنزيلاً لما توهمه أهل الأرض: سبحان ربنا ليس هو بيننا فهو آت، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم لذل يومهم. فتوهم، وقد تسربلوا بأجنحتهم ونكسوا رؤوسهم في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم، ثم كل شيء على ذلك وكذلك إلى السماء السابعة كل سماء مضعفين بالعدد، وعظم الأجساد، وكل أهل السماء محدقين بالملائكة صفا.حتى إذا وافى الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين وأدنيت من رؤوس الخلائق قاب قوس أو قوسين، ولا ظل لأحد إلا ظلَّ رب العالمين، فمن بين مستظل بظل العرش، وبين مضحو بحر الشمس، وقج صهرته بِحَرِّها واشتدّ كربه وقلقه من وهجها، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت، فدفع بعضهم بعضاً وتضايقت فاختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم، ففاض العرق منهم سائلاً حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة والشقاء، حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه، وبعضهم حقويه، وبعضهم إلى شحمة أذنيه، ومنهم من كاد أن يغيب في عرقه ومن قد توسط العرق من دون ذلك منه.عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الرجل ( وقال مرة إن الكافر) ليقوم يوم القيامة في بحر رشحه إلى أنصاف أذنيه من طول القيام )). وعن عبدالله رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (( إن الكافر يلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذلك اليوم، (وقال علي: من طول القيام. قالا جميعا) حتى يقول: رب أرحني ولو إلى النار. وأنت لا محالة أحدهم، فتوهم نفسك راجعة لكربك وقد علاك العرق، وأطبق عليك الغم، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم.عن قتادة أو كعب قال: يوم يقوم الناس لرب العالمين. قال: (يقومون مقدار ثلاثمائة عام، قال سمعت الحسن يقول: ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة، حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش، واحترقت أفواههم من الجوع انصرف بهم إلى النار، فسقوا من عين آنية قد آن حرها، واشتد نفحها، فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به كلم بعضهم بعضا في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم، كلهم يقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل وينادي بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لإهتمامه بنفسه وخلاصها، وكذلك يقول الله عز وجل: {يَوْمَ تَأْتِيْ كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}.فتوهم أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم، منفرد كل واحد منهم بنفسه، ينادي نفسي نفسي. فلا تسمع إلا قول نفسي نفسي، فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه، فما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم، والخليل إبراهيم، والكليم موسى، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله عز وجل وعظم قدر منازلهم عند الله عز وجل، كل ينادي: نفسي نفسي، شفقاً من شدة غضب ربه، فأين أنت منهم في إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك بذلك اليوم، وبحزنك وخوفك؟ حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم أتوا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجاب إليها، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه فأذن له ثم خر لربه ساجداً، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله، وذلك كله بسمعك وأسماع الخلائق، حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم.

ليست هناك تعليقات: