بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 1 مايو 2012

شَـيءٌ مِـن شَـجـَن ألـذاكِـره

هكذا وجدتُني أعود أدراجي كرّة أخرى إلى ذلك البَيتٍ الطِيني حيث أبصَرت عَيناي النُور لأولِ مَره هناك حيث قدِم إلى هَذا العَالم بِولادتِي خَيرٌ جَديد وشَرٌ جَديد كَما قَال زَكي مُبارك " طَغى ذلك الخَير على ذلك الشَر فيما بعدُ بِحسَب عِلمي " فِي نَفسِ ذلك البَيت العَتيق دَبت أقدامِي عَلى هذه الأرض وبه استَنشَقتُ رِيح الصِبي مَمزوجاً بنَكهةِ الطِين

لم يَكُن هناك حَاجهَ لأن تُخرِج رأسَك من النافِذه لِترى السَماء بل فَقط اُنظُر فَوقكَ لِترى النُجوم سَاطعهً تتلألأ  في مَنظرٍ جُميلٍ يَتكرر كُل لَيله
كُنتُ مُولعاً بتِلك السَماء وبِنجومِها وكعادةِ الجَميع في ذاك الزَمن كُنا نَنام في السَطح فآخذ بِيدي الصَغيره وارفعُها نَحو السماء وأبدأ بالعد واحِد اثنين ثلاثه وفِي كُل ليله كانت جَدتي رحِمها الله تُردد على مسمعي تلك الاسطوره إياك أن تَعد النُجوم وإلا امتلئ وجهُك بالثآليل ورَغم إنني لم أكن أعرف الثآليل إلا أنَها كانت تُشبه الغوله في مُخيلتي فأعد بعيني وبلسانٍ صامت واحد اثنين ثلاثه .. حَتى أنام وعلى صَوت الدِِيكه كَانت تَتفتح أعيننا

لم يَكُن هُناك صَوت لمُكيفاتٍ تَهدر ولا لِسياراتٍ تَسمع صَرير كَفراتِها على الإسفلت جيئه وذهاباً ولا حَتى الإسفلت كانَ مَوجوداً في هذه الزِقاق فالأرضُ كانَت رَمليه ولأنَها كانَت كَذلك لم أكُن أرى الكَثير مِن الناس ينتعلُ أحذيهً ،
كُنت وإخواني ننظُر إلى العالم الخارجي من شِق صَغير في الباب وان فتحنا البَاب فيكفي عينٌ واحده تنظُر إلى العالم الخَارجي وعينٌ تُراقب في الداخل نَحو "الدِهليز" خَوفاً من أن يرانا أحد

في الجوار أيضَاً جيران طَيبون وبَقاله العَم صالح الذي نَنتظره على بابِها في عز الظَهيره حتى صَلاة العصر كانتظارِ العَشيقِ لمعشوقَته مُمسكين بالرِيال بِكل قُوه وكأنهُ حَبل نجاه بيد شخصٍ يُعاني شِدة الأمواجِ وقد سَقط من السفينه مِسكين ذاك الرجُل كان يقضي وقتا طويلاً في كوي الرِيالات


كَم كانت الحَياه بَسيطَه والناسُ بُسطاء لا اِتيكيت ولا رَسميات، الأبوابُ مفتوحهً على الدَوام وما أن تطهو إحداهُن طعاماً إلا وتتعاهد جِيرانها وعلى ألسُفره أنواعٌ وأصناف قلما كانت تطهوه نِساء البيت بل جُله مِن الجِيران  خاصة في رمضان، كُنا نرى النِساء في الضُحى يخرُجن من منازلهم إلى منازلِ جاراتِهن مُحملاتٍ بالأواني والأكياسِ و"نَظِرةٌ إلى مَيسره"

إن اِجتمعنا فعلى التِلفزيون "ألابيض وألاسود" وعلى برامج هادفه " كالعلم والإيمان للدكتور مُصطفى محمود" أو " مِنكم واليكم للشيخ عبدالعزيز المسند" أو "على مائدة الإفطار للشيخ علي الطنطاوي " رحمهم الله تعالى أجمعين والمصَارعه الحره يوم الثلاثاء ومن ثم يغلق التلفزيون أبوابه وينام مُوظفوه على أمل ألعوده صَباحاً السَاعهَ العَاشره
لا فَضائِيات ولا أطَباق ولا عُري ولا بَرامِج تَخدش الذوق السليم "ولا حَتى غَير السليم" بَل كَان كُل المُجتمع مُجتمع صَالح أفراحهم تنتهي عِند صًلاة العِشاء فلا يَتأخر عن صَلاة الفَجر أحد لا يعرفون السَهر ولا اللهو ولا هُم مِن عُشاق مُهند ونور

وفي أواخرِ عَهد الملكِ خالد رحمه الله تعالى طًرقت المدنِيه الحَديثه أبوابَنا بِقوه فانتقلنا إلى بَيت جَديد مُسلح بدرج من رُخام " سمعتُم ؟ رُخام" وعَشره غُرف وشارعٍ مرصوفٍ، كان كقصر توبكاي " هَكذا كُنت أظُن ولم أكن اعرِف توبكاي هذا" وسَريعاً دَبت الحضَاره في أطرافنا فتنشقنا عَبيرها ، شَوارعَ وطرق وجُسور وكَباري وبِناء وعُمران والأهم مِن هذا كُله تَرك الناسُ الحَفاء وانتعلوا الأحذِيه

لم نَكُن نَعلم أن تِلك المَدنيه هي نَفسها المِشنقه وقد نَصبت عِيدانها فَشنقت البَساطه من حَياتِنا والطِيبة مِن على مُحيا أكثرِنا [  كَتب الفيلسوف الانجليزي جون راِسكن عَن مُجتَمعِه ذات مَرّة فَقال "
في طَريقي إلى المَتحَف كلّ صَباح أجِدُ وجُوه الناس في الشَارع تزداد فَسادًا يومًا بَعد يَوم "]

كَما هُو حَال وجوه النَاس عِندنا اليَوم

اختفى التلفزيون " ابو اريل " وبأزرار الريموت رحنا نقلب الفضائيات التي أطَلت بِرأسِها على غَير استحياء فكانت أولاهن تِلك التي أنجَبت فِيما بعد بَنات فورثن من أمِهِن دياثة ومَكرا وتبِعها من بعدُ فَضائيات وفضائيات حَتى أصبحت ألافا جُلها لاهم لها إلا إبعاد النَاس عن دينهم والدخول بِهم إلى جُحر الضب التغريبي    
وسَافَر الناسُ شَرقاً وغَرباً فأدخَلوا مَعهم شَر مافي المُجتمعاتِ التي زاروها إلى جانِبَ خَير قليل لايقارن بالشر الذي جَلبوه معهم
   
قال توفيق الحكيم بعضُ الكلماتِ تَندسُّ كالغوغاءِ في مواكبِ المَعَاني فأعتذرُ وقد اندست تِلكم الغَوغاء بين الأسطر فَملئت المكـان ..

ليست هناك تعليقات: