بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 5 يونيو 2012

تسعة قروش

من أسبوعين ابتليت من أولادي ببلية ، هي أني كلما دخلت الدار تعلقوا بي طالبين تمثال العبد الأسود ذي الطربوش الأحمر . و أنا لا أدري ما هذا التمثال ، و لا أعرف من أين آتيهم به ، وهم يلحُّون لا يشغلهم عنه شيء من غالي اللعب ، ونادر الطرف ، حتى كرّهوا إليَّ البقاء في البيت ...
وكنت مرة خارجاً إلى عملي مستعجلاً ، فوجدت بائعاً يحمل هذه التماثيل ، ينادي " الواحد بقرش" ففرحت به فرح الضالّ في البادية يرى معالم الطريق ، واشتريت تمثالين و حملتهما معتزّاً بهما كأني أحمل كنزاً ، وعدت بهما حتى إذا دنوت من الدار وجدتُ ولدين صغيرين قاعدين في ظل جدار ، فلما أبصرا التمثالين برقت عيناهما ، ودنا رأسهما في همس ، وارتفعت يداهما في إشارة خفية متهيبة ، وشخص بصراهما كما يفعل شابان غريران طلعت عليهما من الطريق فتاة فتّانة ... وقاما فتبعاني وعيونهما معلقة بالتماثيل ، فلما رأيت ذلك منهما فكرت أن أدفعهما إليهما . ولكني خشيت أن أرجع فلا أرى البائع و تخيَّلتُ رغبة أولادي فيها ، فلم تطب نفسي أن أحرمهم هذه المتعة ، ولم أستطع الإعراض عن الولدين الفقيرين فدعوتهما فدفعت إليهما قرشين ، وقلت لهما :- هو ذا البائع ، فألحقاه فاشتريا مثلهما . الواحد بقرش !
فأخذا القرشين وعهدي بمثلهما أن القرش الصاغ ثروة له ، لا يناله إلاَّ بشق النفس ، فما حفلا بهما و لا هشا لهما ، ولبثا شاخصين في التمثالين كأنهما لم يريا القرشين ، ولم يسمعا الكلام ، أو كأن عقلهما فارقهما فاستقر على ما في يدي ، فلم يفهما كلامي ، وحاولت نسيانهما وسرت ، فتبعاني كأنهما كلبان وكنت أحس بحرّ نظراتهما على ظهري ، وبثقلها على روحي ، فأهم أن أمد يدي باللعب إليهما ، ثم تدركني محبة الولد فأكف ، حتى وصلتُ الدار وصورتهما أمام عيني ، تمنع عنهما رؤية فرحة أولادي باللعب وتواثبهم إليها .
ولمّا خرجت وجدت الولدين لا يزالان في الطريق ، يفتشان عن البائع يعدوان هنا وهناك ، كأم أضاعت طفلها و لا تدري أية سبيل سلك . فدعوتهما فأفرخت روعهما ، وسألتهما عن اسميهما فمشيا معي فما درت مع الطريق دورة حتى لقيت البائع أمامي ، فاشتريتُ لهما تمثالين وتركت لهما القرشين ، ووجدتُ حول البائع أولاداً مثلهما فقلت له :
- أعط كل ولد تمثالاً.وكانوا تسعة فدفعت إليه تسعة قروش .هل تصدقون أو أحلف لكم ؟! أني لما نظرتُ في وجوه الأولاد وقد بدا فيها بهاء الفرح – وما عرفتْ هذه الوجوه الفرح قطّ – ولاحت عليها سمات الطفولة الراضية الشاكرة – وما كان يلوح عليها إلا الألم والحقد المرير- و أشرق عليها نور إلهي سطع من وراء ما حملت من الأوساخ و الأقذار . ولما رأيت عيون الأمهات الواقفات تدمع ، وألسنة الرجال الواقفين تدعو ، أحسستُ في قلبي بفرحة لا تعدلها فرحة الجائع بالمائدة المملوكية المترعة ، و لا الضَّجِرُ بالقصة العبقرية الممتعة ، ولا المحب المدنف بلقاء الحبيب بعد طول الهجران.
لا والله ، فتلك أفراح أرضية ، وهذه فرحة سماوية ، قد تعيش آلاف البشر وتموت ، ولا تحس مثلها . و شعرتُ كأنِّي كبرت في عين نفسي ، وأني صرت أقوى وأقدر ، وأني نلتُ الأماني ومُتِّعت بالخلود.
إننا ننفق كثيراً من المال ، نشتري به يسير المتع ، وهذه متعة ما يكاد يجد الإنسان مثلها ، نلتها بتسعة قروش ، وما تسعة قروش بالنسبة لي ؟ إنها شيء كالعدم ؛ شيء لا يغنيني وجوده ، ولا يفقرني فقده ، فهل تحبُّون أن تشتروا مثل هذه المتعة ؟ هل تحبُّون أن تعرفوا ما هي لذة الروح ، وما هي راحة القلب ؟ هل تريدون أن تذوقوا نعيم الجنة وأنتم في الدنيا ؟
لا تحسبوا أني أصف كلاماً ، وأرصف ألفاظاً ، إني والله أسوق لكم حقائق ، فإن أردتم معرفتها ففتشوا حولكم عن هذه الطفولة المحرومة وهذه النفوس المعذبة ومن ثم أولوها الإحسان .وليست قيمة الإحسان بكثرة المال ، إن المال ينفع الفقير ولكنه لا ينزع من قلبه النقمة على الحياة ، ولا يستلُّ منها بغض الأغنياء ، ولا يملؤها بالحب . إن الذي يفعل هذا كله هو العطف ، وأن تشعر الفقير بأنه مثلك ، وأن تعيد إليه كرامته وعزة نفسه . ورب تحية صادقة تلقيها على سائل أحب إليه من درهم ، ودرهم تعطيه فقيراً وأنت تصافحه يكون آثره عنده من دينار تدفعه إليه متكبراً مترفعاً ، يدك تمتد إليه ، ووجهك يجرعه كأس الإذلال .
إن كل غني يستطيع أن يتصدق بالكثير . ولكن غني القلب بالإنسانية والنبل والحب ، هو الذي يستطيع أن يتصدق مع المال ، بالعاطفة المنعشة ... فلا تضنوا على الفقراء بإنسانيتكم ، و لا تبخلوا عليهم بعطاء قلوبكم ، وذكروهم أنهم لا يزالون معدودين من البشر ، وأنهم مثلكم لأب واحد ولأم واحدة ، لآدم وحواء ، وأنهم لم ينحدروا إلى دركة الدواب والبهائم .
ذكروهم بهذه الحقيقة التي طالما نسيتموها أنتم ، ونسوها هم أنفسهم . ولم لا ينسونها وهم يعيشون كما تعيش البهائم ، ينامون مثلها على الأقذار ، في الأكواخ والحقول ، وفي الأزقة المعتمة ، وفي الخرائب المهجورة ، ويأكلون مثلها من فضلات الناس ، ويشربون مثلها من البرك الآسنة ، والأنهار العكرة ، ولم ينالوا تعليماً يرفعهم عنها و لا مدينة تميزهم منها ؛ يسهرون في عصر الكهرباء على السرج والقناديل ، ويركبون في عهد الطيران على العربات التي تجرها الحمير ، ويسكنون في الأكواخ على التراب في زمان ناطحات السحاب ومن تشبه منهم بالناس المتحضرين لم يكد يصل إلى مثل حضارة الإنسانية الأولى ، يحلق مثل (الناس) ، ولكنه يقعد على الأرض ، على رصيف الشارع ، وبيده مرآة مكسورة يرى فيها وجهه ، والصابون القذر يغطيه ، وموسى الحلاق المفلولة تجري فيه ، والدم ينبثق من نواحيه ، ثم تمر على هذا الوجه البشري ممسحة لا ترضونها أنتم – والله – لمسح أحذيتكم . ويركبون مثلما يركب الناس ، ولكن على (عربات الكارو) ، العشرة على متر مربع من الخشب ، محمولين على دولابين من الحديد يسحبه حيوان هزيل ، والعربة ترتج بهم ، فترقص معدهم ، وتزلزل أمعائهم ، ثم لا تصل بهم إلى نهاية الميل الواحدة إلا بعد ساعة . ولهم قهوات ، ولكن قهواتهم اصطبلات فيها ركائز تسمى مناضد أمامها عيدان تدعى كراسي . ولهم مطاعم ، ولكن مطاعمهم يقدم فيها المرض في طباق قذرة ...
فتداركوهم قبل أن يكفروا بالإنسان ، فينقلبوا حرباً عليه ، حرباً ليس معها أمان . أشعروهم أنه لا يزال في الدنيا فضل وعدل ونبل . ليجد كل واحد منكم على من هو دونه ، لا بالمال وحده ، بل العاطفة والتواضع والإنسانية ... والرئيس على المرؤوس ، والوزير على الوكيل ، والوكيل على المدير ، والضابط على العريف ، والعريف على الجندي ، فإن كل واحد من هؤلاء هو اليوم عبد لمن هو أعلى منه ، وفرعون على من هو دونه ، يتكبر عليه من هو فوقه ،ويتكبر هو على من تحته ، حتى إن الشرطي ليطغى على البائع المتجول ، والبائع يطغى على امرأته ، و المرأة تطغى على ولدها والولد على القطة يضربها بالعصا أو الكلب يرميه بحجر ، كل يحاول أن يظلم كما ظُلم ، والمجرم الأكبر هو الظالم الأول . إنهم كالحيوانات ، الجرادة تأكل البعوض ، والعصفور يأكل الجرادة ، والحية تقتل العصفور ، والقنفذ يقتل الحية ، والثعلب يسطو على القنفذ ، والذئب يسطو على الثعلب ، والأسد يفترس الذئب ، والإنسان يقتل الأسد ، والبعوضة تقتل الإنسان فتغلق الحلقة على عدوان بعد عدوان .
كم تلقون كل يوم ممن هم دونكم فلا تتفضلون بالالتفات إليهم ، ولا تفكرون فيهم ، ولا تشعرون بوجودهم ، ثم تتألمون إذا أعرض عنكم من هو فوقكم ، وتجاهل مكانكم ، وترون ذلك جرحاً لشعوركم وكسراً لقلوبكم ، فلماذا تطلبون ممن فوقكم ما لا تعطونه من هو دونكم ؟ أليس هؤلاء نفوس تحس ، وقلوب تتألم ؟
مررت أمس بسائلة على شاطئ النيل الصغير ، في الروضة ، وأمامها بنت لها تحبو ، وصلت إلى كومة أوساخ فنشبت فيها حتى وجدت بقية لعبة فحملتها فرحة بها وعادت إلى أمها مستبشرة ، فأخذتها منها أمها ومسحتها وحاولت أن تصلحها وتعيد الحياة إليها وقد فارقتها الحياة منذ أزمان .
فلويتُ وجهي ألماً من منظر هذه القذارة ، ثم عدتُ ألوم نفسي وأسائلها ، ما ذنب هذه الأم إذا أحبت بنتها وأرادت إسعادها ؟ وما ذنب هذه البنت إذا طالبت بحق الطفولة الطبيعي باللعب ؟
لماذا أشتري لبناتي كل أسبوع لعبة ولم يخطر على بالي أبداً أن في البلد أطفالاً لا يجدون لعباً ؟ نحسب أننا إذا أطعمنا أطفال الفقراء الخبز ، فقد أدينا حق الله وحق المروءة و الإنسانية علينا ، ولكن الطفل لا يكفيه الخبز ولا يرضيه ، وهو يرى أطفال الناس يمرون به كل ساعة ، وعليهم أبهى الثياب ، ومعهم أغلى اللعب ، إنه بين أمرين : إما أن يتبلد حسه ، وتموت نفسه ، فلا يطمع أن يجاري هؤلاء ، ولا يأمل أن يكون مثلهم أبداً ، فينشأ ضعيف الهمة ، ذليلاً مهيناً ، فيكون من أسباب ضعف هذه الأمة وهوانه على الأمم ... وإما أن يثور ويغضب ويمتلئ قلبه الصغير حقداً ، ثم يكبر ويكبر الحقد معه حتى يكون عدواً للمجتمع ونقمة على الناس ، يظلمهم كما ظلموه ، يسرق من يستطيع سرقة ماله ، ويزهق روح من يتمكن من إزهاق روحه ، وينشر الفساد في الأرض ...
فماذا نجعل من هؤلاء الأطفال أعداء لنا ؟ لماذا لا نحبهم فنعلمهم الحب ؟ أليسوا أزهاراً في روض الحياة ؟ أليست كل زهرة حلوة ولو علاها الغبار ؟ أليس كل صغير جميلاً ولو كان قطاً أو كلباً ؟ أفنحب القطة الصغيرة ونمسحها ونضعها على الأحضان ونكره هؤلاء الأطفال ؟ وما لهم ؟ أ لأنهم قُذْر الوجوه والثياب ؟ إن القذارة لا تحب ، ولكن هذا ذنب أمهاتهم ، لا يغسلن وجوههم وهن على النيل ! لا ، بل هو ذنبي وذنب كل واحد ، وذنب الكتاب وأولي الأمر ، إنهم لم يعلموا هؤلاء الأمهات النظافة ، ولم يقل لهن أحد أن النظافة لازمة والوساخة مؤذية . ومن يقول لهن ، وهن (شحادات) على الطرقات ، لا يكلمهن أحد أبداً؟!
وما يدريني أن ابنتي أو ابنة أحدكم لا سمح الله ، ستلقى مثل هذا المصير ؟ من منا أخذ على الدهر عهداً أن لا يزيل عنه نعمة ؟ هل أمنا المرض والفقر ؟ هل أوقفنا حركة الفلك ؟
وهل نسينا أن في الوجود إلهاً ، وأن بعد الدنيا آخرة ؟ فكيف سوَّغنا لأنفسنا مع هذا كله إهمال هذه (الإنسانية ) الصغيرة المبرأة الطاهرة ؟ لقد كان فينا مقلدون متحذلقون ألفوا جمعيات للرفق بالحيوان ... ولكن لم ينشأ فينا إلى اليوم من يؤلف جمعية للرفق بالإنسان ؟ لقد بلغ الخزي من نفوسنا أن وجد فينا أناس يطعمون الكلاب المدللة اللحم السمين ، والشوكولاتة الغالية ، وحولهم بشر لا يأكلون اللحم مرة في الشهر ، ولا يتذوقون الشوكولاته أبداً .
***إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا ، وأحلى أفراح القلوب ، فجودوا بالحب وبالعواطف كما تجودون بالمال .


علي الطنطاوي           

ليست هناك تعليقات: