لقد أحجم ابن الأثير عن الكتابة عن محنة التتار لهول الفاجعة، فبقي عدة سنين معرضا عن ذكرها استعظاما لها، وهو القائل: لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها...". ثم مضى -رحمه الله تعالى- يسرد أفعال التتر بالمسلمين ومبدأ خروجهم إلى وقته.
هذا؛ وابن الأثير وهو يكتب ذلك بدمعه وألمه لم يدرك سقوط بغداد في أيدي التتر؛ لأنه مات قبل ذلك بست وعشرين سنة، فماذا كان سيكتب لو أدرك ذلك؟! وماذا كان سيقول لو أدرك انتهاء الإسلام في الأندلس بسقوط غرناطة؟! وماذا سيسطر في تاريخه لو أدرك ممالك الإسلام وهي تنتقص من أهلها وتجزأ وتفتت، فرحم الله ابن الأثير، ورحم الله تعالى كل قلب حي يتألم للإسلام وما أصابه ولما ذاعت أخبار تسليم غرناطة وشروطها المذلة المهينة سخط المسلمون على أبو عبدالله الصغير، فاستعد للرحيل، وفي نفس اليوم الذي دخل فيه النصارى غرناطة، غادر أبو عبد الله قصره وموطن عزه ومجد آبائه، وتقدم نحو فرديناند ومد إليه مفاتيح الحمراء قائلا له: 'إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب في إسبانيا، وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا، هكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيمًا عادلاً'، وتقدم صحبة فرديناند نحو الملكة إيزابيلا لتحيتها، وغادر المكان وعندما أشرف في مسيره على منظر غرناطة انهمر دمعه وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمه عائشة: 'أجل، فلتبك كالنساء مُلكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال
ومن يومها ودول الإسلام تنتقص أرضًا أرضًا، وتسقط في قبضة الأعداء دولة دولة حتى تُوج ذلك بالقضاء على الدولة العثمانيه، وفُتت العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة فيما عرف باتفاقية "سايكس بيكو"، وما زالت دوله تنتقص وتُجزَّأ، ويزرع فيها من يكيد للأمة المسلمة، ويكون عينًا للغرب الصليبي، وراعيًا لمصالحه، وساعيًا لمزيد تفتيت وتجزئة حتى لا تقوم للمسلمين قائمة،هذه الزفرة بدأت في جنوب السودان مع أول دقيقة من يوم التاسع من يوليو 2011 اليوم المحدد لإعلان دولة جنوب السودان، هذه الدولة التي ولدت بناء على مؤامرة دولية كبيرة ليست وليدة اليوم فعندما قام الإنجليز بفصل السودان عن مصر تحت اسم الاستقلال قبل أن ينسحبوا عسكريا منه، وذلك في عام 1956، واعترف عبدالناصر بهذا الفصل، وهذه أول جريمة فصل طوعية بين بلاد المسلمين في العصر الحديث، أما أرض الجنوب فهي أرض بكر متخمة بالثروات، ومنها النفط الذي تتصارع عليه الشركات النفطية الكبرى، وتربتها من الخصوبة بمكان، وعدد سكانها لا يتجاوز الثمانية ملايين نسبة المسلمين منهم حوالي 25 %ونسبة النصارى حوالي 17% والغالبية الباقية من الوثنيين وفي عام 1922 بدأت بريطانيا الإعداد لفصل جنوب السودان عن شماله
فلقد تركت بريطانيا إسفيناً أشغلت به السودان على مر العقود، ووضعت بذرة انفصال الجنوب، ثم رعت الدول الغربية هذه البذرة وسقتها.. من بريطانيا إلى أمريكا حتى أينعت وهكذا قسمت الأندلس حتى ضاعت من قبل وأضحى الإسلام فيها أثرًا بعد عين، وتراثًا يحكيه القصاصون، وهكذا أيضًا سقطت دولة بني عثمان، وقسمت دول الإسلام، وهكذا أيضًا ضاعت دول البلقان، وهكذا فصلت سنغافورة عن ماليزيا، وفصلت كشمير عن باكستان، وهكذا بترت تيمور الشرقية عن إندونيسيا والقلوب المؤمنة الحية تتألم لهذه المصيبة التي دهت الإسلام بفصل جنوب السودان ومن مخاطر هذا الفصل: تقوية الدولة اليهودية التي خططت لهذا الفصل منذ احتلالها للقدس قبل أربعة عقود، ودعمته ماليًا وسياسيًا وعسكريًا إلى أن تم لها ذلك، ولها أطماع في ثروات جنوب السودان، وفي مياه النيل، وفي السيطرة على منابعه لخنق مصر وتطويعها، ومخاطر أخرى تعزّ على الحصر.
ولكن رغم قتامة المشهد، وتأزم الموقف، وضعف الأمة، وشدة ما يحيط بها من مخاطر، وما يحيكه الأعداء لها من مكائد؛ فإن الأمل في الله تعالى عظيم، وإن نصره قريب، وما تكالب الأعداء على الإسلام إلا لقوته وسرعة انتشاره في الشعوب، وما على المسلمين إلا العمل لدين الله تعالى، وتبليغ رسالته، وكشف مكائد الأعداء للحذر منها(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ) (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق