تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب ، و وزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني رباني ، فمنذ الطفولة و إلى الآن أرى لطفاً بعد لطف ، و ستراً على قبيح ، و عفواً عما يوجب عقوبة . و ما أرى لذلك شكراً إلا باللسان . و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً . و لو كشف للناس بعضها لاستحييت . و لا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن في ما يظن في الفساق . بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، و وقعت بتأويلات فاسدة . فصرت إذ دعوت أقول : اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي . - انظر الناس الي بتفهم لما يتوسل يتوسل بفضل الله عزوجل وليس بعمله ، مثل ما تقول : يارب أنت كرمتني في كذا وأعطيتني كذا وكذا فكرمني في هذا الموضوع ...... - ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي . ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي - بطلب من ربنا ما أريده - و لا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، و لا بشكر على نعمة . فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ، و كوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به . و قد كنت أرجو مقامات الكبار ، فذهب العمر و ما حصل المقصود . فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما نحت فأعجبتني نياحته ، فكتبتها ههنا . قال لنفسه : يا رعناء - يا هيفاء يا تافها - تقومين الألفاظ ليقال مناظر . و ثمرة هذا أن يقال : يا مناظر . كما يقال للمصارع الفاره - يا فنان ، يا لعيب - ضيعت أعز الأشياء و أنفسها عند العقلاء ، و هي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر . ثم ينسى الذاكر و المذكور إذا درست القلوب . هذا إن تأخر الأمر إلى موتك ، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له و صار الاسم له . و العقلاء عن الله تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ، و هو العمل بالعلم ، و النظر الخالص لنفوسهم . أف لنفسي و قد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ، و ما عبق بها فضيلة . إن نوظرت شمخت ، و إن نوصحت تعجرفت ، و إن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم -طائر- ، و سقطت عليها سقط الغراب على الجيف . فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة. توفر في المخالطة عيوباً تبلي و لا تحتشم نظر الحق إليها . و إن إنكسر لها غرض تضجرت ، فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم . أف و الله مني اليوم على وجه الأرض و غداً تحتها . و الله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي و أنا بين الأصحاب . و الله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك ، و يجمعني و أنا أتشتت . و غداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، و لو عرفوني حق معرفتي بنفسي ما دفنوني . و الله لأنادين على نفسي نداء المكشفين معائب الأعداء . و لأنوحن نوح الثاكلين للأبناء إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ، و الخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، و غطاها من علمها . و الله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها : اللهم اغفر لي كذا بكذا . و الله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ، و وقاية تحميني ، مع تسلط الأعداء . و لا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي ، و هو رب غني عني ، و هذا فعلي و أنا عبد فقير إليه . و لا عذر لي فأقول : ما دريت أو سهوت . و الله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، و نور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات و المكتومات تنكشف لفهمي . فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى . وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء . يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، و شماتة العدو بي . وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي . وا خذلاني عند إقامة الحجة ، سخر و الله مني الشيطان و أنا الفطن . اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار . و قد جئتك بعد الخمسين و أنا من خلق المتاع . و أبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، و ليس لي وسيلة إلا التأسف و الندم . فو الله ما عصيتك جاهلاً بمقادر نعمك ، و لا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي
ابن الجوزي في صيد الخاطر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق